هل خلاء الفضاء يعني بأنه فارغ تماماً؟
هناك الكثير من المادة السابحة في الفضاء بعيداً عن الأرض.
تخيل أنك انطلقت إلى أعمق مكان وأكثره فراغاً في الفضاء، مكان يحقق الخلاء التام، فهل سيحيط بك الفراغ؟ إن الإجابة محيرة أكثر مما تتصور! هل خلاء الفضاء يعني بأنه فارغ تماماً؟
بدأت دراسة الخلاء منذ القرن ١٧ تقريباً بتجربة جريئة صممها أوتو فون غوريكه عمدة بلدة ماجدبورغ في الإمبراطورية الرومانية.
فمن بين أعماله الجريئة التي أراد أن يظهر فيها أن مدينته عادت إلى الحياة الطبيعية بعد دمار ٣٠ عاماً من الحروب تجربة مثيرة، عرض فيها اختراعه للإمبراطور ووجهاء الإمبراطورية متباهياً به. وكان الاختراع مخليّة ضغط اخترعها.
وذلك عن طريق إطباق نصفي كرة مع بعضهما وتخلية الكرة من الهواء، ليبرهن بعدها بأن لا شيء يستيطع إبعاد هذين النصفين عن بعضهما حتى لو كان مجموعة من الأحصنة.
الأثير
تركزت تساؤلات الفلاسفة والعلماء بعد هذه التجربة بعقود عما إذا كانت أقاصي الفضاء مليئة بنوع من المادة يسمى الأثير. وهذه المادة تحقق غرضين: أولهما أنها تمنع تشكل الخلاء التام في الفضاء، وثانيهما أن تعمل وسيطاً لموجات الضوء كي تنتشر عبرها.
وفي نهاية القرن التاسع عشر صمم ألبرت ميكلسون وإدوارد مورلي تجربة ذكية لقياس تغيرات سرعة الضوء أثناء تحرك الأرض عبر الأثير. وبالطبع لم ترصد أية تغيرات. ولم يطل الوقت حتى أثبت أنشتاين أن سرعة الضوء ثابتة دائماً. لذا ابتعد العلماء عن فكرة الأثير فاسحين المجال أمام احتمال تشكل الخلاء التام في الفضاء.
الفراغات الكونية
مع هذا، يوجد الكثير من الأشياء التي تطفو في الفضاء بعيداً عن الأرض حتى، منها: الجسيمات المشحونة وذرات الهيدروجين الشاردة وذرات الغبار وغيره. ومع أن كثافة الفضاء بين النجمي أخفض بمليارات المرات من أكثر غرف التخلية التي صنعها الإنسان تخلية، فإنها ليست فارغة ١٠٠٪.
ولكي تصل إلى أكثر أماكن الكون فراغاً عليك أن تسافر عبر فراغات الكون، وهي مساحات شاسعة من اللاشيء تسود في جزء كبير من الكون. ويمكن أن تكون أعماق أكبر فراغات الكون على بعد ملايين السنين الضوئية عن أقرب مجرة.
ويكون لب هذه الفراغات الكونية فارغاً إلى درجة أن المادة المظلمة -نوع المادة الغامضة وغير المرئية التي تشكل القسم الأعظم من أي مجرة- لا وجود لها فيها.
ومع كل ما ذكر، لن يكون الفضاء خلاء تاماً. إذ يغرق الكون كله جسيمات متعادلة خفيفة تسمى النيوترينات، بالإضافة إلى بقايا الإشعاع الناتج منذ الأيام الأولى لتشكل الكون. ويسمى هذه الإشعاع الخلفية الكونية الميكروية. وهي مسؤولة عن ٩٩.٩٩٪ من الإشعاع كله في الكون، ولا يمكن تجنبها. إذاً فأنت حتى في أكثر الفراغات ظلمة لست وحدك تماماً.
هل يمكن تحقيق الخلاء التام؟
لنقل أنك ستبني صندوقاً ضخماً ثخيناً بما يكفي لكي يرد جسيمات النيوترينو وإشعاعات الخلفية المكروية، فلا يدخل شيء داخله. (تقنياً، ستصدر جدران الصندوق فوتونات منها، ولكن لنهمل ذلك في التجربة). هل ستكون لوحدك حينها داخل الصندوق؟
تقدم الفيزياء الكمية إجابة مفاجئة، ألا وهي: لا. إذ اكتشف علماء الفيزياء أن الحقول الكمية تغمر الزمان والمكان كله. والحقول الكمية هذه تؤدي إلى نشوء جزيئات الحياة اليومية. ولكن هذه الحقول لوحدها تملك طاقة ذاتية، تسمى طاقة الفراغ أو الخلاء. وهذه الطاقة موجودة في كل مكان في الكون. فحتى وإن لم يكن حولك جسيم واحد، فإن هذه الطاقة ستكون رفيقك الوحيد.
فماذا لو وضعت جهازاً لامتصاص هذه الطاقة (الأمر المستحيل تقنياً بالطبع، ولكن دعونا نفترض افتراضاً في سبيل التجربة)؟ فهل ستصبح عندها بالفعل وحيداً في الكون دون أي شيء حولك؟ محاطاً إحاطة مثالية باللاشيء؟
الإجابة على ذلك هي أن الأمر نسبي. إذ أنك ستبقى جسماً في الفضاء، والبعض يعد الفضاء بذاته أن له وجود. فنحن نميل إلى عد الفضاء بأنه مجرد تجريد رياضي، أي طريقة نقيس بها المكان والامتداد. ولكن فكرة الفضاء بدأت تأخذ شخصية محسوسة أكثر مع عمل رينيه ديكارت عبقري القرن السابع عشر الذي ابتكر أساساً رياضياً لوصف الفضاء. فإذا رسمت محوري الإحداثيات يوماً ما فالفضل لديكارت.
ثم جاء إسحق نيوتن ليرتقي بفكرة الفضاء لتكون خلفية مطلقة لخدمة حركة الأجسام وقوانين الفيزياء التي تحكم سلوكها. والفيزياء الحديثة باختصار هي: تتحرك الأجسام وتتفاعل مع بعضها على خلفية من الفضاء التي يفترض وجودها.
ذهب أنشتاين بهذه المفاهيم أبعد بنسبيته العامة. إذ جعل الفضاء كياناً ديناميكياً مرناً يستجيب لوجود المادة ويوجه حركتها. فالفضاء نفسه -وخصوصاً ديناميكياته- هو ما يؤدي إلى ظهور قوة الجاذبية.
ما هو الفضاء إذاً؟
إذا فالفضاء مجرد تجريد رياضي، أداة نستخدمها لوصف العلاقة بين الأجسام الفيزيائية، أم هو شيء آخر؟ إليك فكرة مثيرة: ماذا عن أمواج الجاذبية أو الأمواج الثقالية؟
هذه الأمواج لا تحتاج وجود المادة والطاقة لتتحرك، فهي ببساطة توجد بصورة حركات موجية في الزمكان ذاته. إذاً، إذا كان الفضاء أداة رياضية فحسب، فكيف توجد هذه الأمواج بمفردها؟
إن السؤال فيما إذا كان اللاشيء المطلق يمكن أن يوجد أم يستحيل لا إجابة قاطعة له. إذ يمكن أن يكون الفضاء مجرد خدعة رياضية غير قائم بذاته، وقد تكون الإجابة بأنه لا يهم أين تذهب، فأينما حللت تكون في مكان ما من الفضاء، أي أنك ستكون محاطاً بشيء ما دوماً.
ملخص المقال
هل خلاء الفضاء يعني بأنه فارغ تماماً؟ بدأت دراسة الخلاء منذ القرن ١٧ على يد أوتو فون غوريكه. ثم جاءت فكرة الأثير الذي يمنع تشكل الخلاء التام. تلتها تجربة ألبرت ميكلسون وإدوارد مورلي لإثبات تغير سرعة الضوء في الأثير، ثم بين أنشتاين أن سرعة الضوء ثابتة، ونفيت فكرة الأثير.
يجدر بالقول أن الفراغات الكونية ذات الكثافة المعدومة تقريباً ليست خلاءً تاماً. وذلك بسبب النيوترينو وإشعاع الخلفية الكونية. وحتى لو عزلتهما، تقول لك الفيزياء الكمومية بأنك لن تحقق الخلاء التام بسبب الحقول الكمية وطاقة الخلاء فيها.
الخلاصة أن تحقيق الخلاء التام لا إجابة قاطعة لصحته، فقد تكون الإجابة إما أن الفضاء مفهوم رياضي غير قائم، أو أنك أينما ذهبت في الفضاء ستكون محاطاً بشيء ما.