في اليوم الثاني عشر من نيسان/ أبريل عام ١٩٦١، انطلقت مركبة الاتحاد السوفيتي الفضائية «فوستوك» حاملة على متنها يوري غاغارين، أول إنسان يصعد إلى الفضاء في التاريخ، دارت فيها دورة وأزيد قليلاً حول الأرض في رحلةٍ امتدت ١٠٨ دقائق. أصبح غاغارين عقب تلك الرحلة بطلاً ثقافيّاً في الاتحاد السوفيتي، ومع مضي ما يزيد عن ستين عاماً اليوم على تلك الرحلة التاريخية، ما زال غاغارين يلقى حفاوة كبيرة في متاحف الفضاء الروسية، وتُعرض العديد من الأعمال الفنية والنُّصب والتماثيل تكريماً له، كما يعرض متحف شركة إنيرجيا كوروليف للفضاء والصواريخ جزءاً من مركبته الفضائية. وقد دُفِنَ رفات يوري في الكريملين في موسكو.
أما عن رحلة غاغارين التاريخية تلك، فقد جاءت في الوقت الذي كانت فيها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي يتنافسان على التفوق التكنلوجي في ميدان الفضاء؛ وقد كان الاتحاد السوفيتي قد أرسل القمر الصناعي الأول إلى الفضاء مسبقاً في تشرين الأول/أكتوبر ١٩٥٧ مطلقين عليه اسم «سبوتنيك».
ويجدر بالذكر أن الاتحاد السوفيتي أطلق رحلة تجريبية إلى الفضاء قبل أن يرسل غاغارين في رحلته تلك، واستخدموا لذلك نموذجاً أولياً لمركبة فوستوك الفضائية، ووضعوا على متنها دمية بحجم إنسان طبيعي أطلقوا عليه اسم «إيفان إيفانوفيتش» ومعه الكلبة «زفيزدوتشكا» [وتعني النجمة الصغيرة]، وإثر هذه الرحلة التجريبية قيّم السوفييت هذه المركبة بأنها ملائمة لنقل الإنسان إلى الفضاء.
طريق غاغارين إلى العَظَمة
في يوم ٩ آذار/ مارس عام ١٩٣٤ وفي قرية صغيرة تبعد مئة ميل عن موسكو ولد يوري أليكسيفيتش غاغارين، الطفل الثالث من بين أربعة أطفال. شهد غاغارين في فترة مراهقته هبوطاً اضطرارياً لطائرة مقاتلة روسية من طراز «ياك» قرب منزله، ولما جاءته فرصة للانضمام إلى نادي الطيران بعد ذلك بسنوات، قبل العرض بحماس، إلى أن قام بطيرانه الفردي الأول عام ١٩٥٥، وبعد ذلك بسنوات قليلة تقدم بطلب لكي يصبح رائد فضاء.
رُشّح أكثر من مئتي قائد طائرة مقاتلة من القوى الجوية الروسية ليصبحوا رواد فضاء، وما جعلهم الأنسب لذلك هو تعرضهم السابق لقوى الجاذبية وقوى الطرد المركزي واختبارهم أوضاعاً عالية الضغط. من بين هؤلاء المرشحين كان الملازم أول غاغارين ذو السبعة والعشرين ربيعاً حينها.
انطلقت المركبة الفضائية «فوستوك ١» يوم ١٢ نيسان/ أبريل عام ١٩٦١ في الساعة ٩:٠٧ صباحاً بتوقيت موسكو من موقع الإطلاق في الاتحاد السوفيتي، وفي ذلك الزمن لم يكن أحد مدركاً لكيفية تأثير انعدام الوزن على رائد الفضاء، لذا كانت إمكانية التحكم على متن كبسولة المركبة الكروية محدودة، وكان يجري ذلك آلياً أو من الأرض، أما عن الحالات الطارئة، فكان من المفترض أن يتلقى غاغارين شيفرة تخطي تسمح له بالتحكم اليدوي من المركبة، لكن المصمم الرئيسي لبرنامج الفضاء السوفيتي سيرجي كوروليف تجاهل هذا البروتوكول وأعطى الرمز لرائد الفضاء قبل الرحلة.
دارت «فوستوك ١» خلال تلك الرحلة التي استمرت ١٠٨ دقائق دورة حول الأرض، وبلغ أقصى ارتفاع وصلته ٣٢٧ كم، وقد كانت محملة بتجهيزات تكفي عشرة أيام في حال تعطل المحرك، لكن غاغارين لم يحتجها. طُلب من غاغارين حينها انتظار الانخفاض الطبيعي لمدار المركبة، وعندما عاد ودخل الغلاف الجوي للأرض، استطاع البقاء واعياً وهو يتعرض إلى قوى تفوق قوة الجاذبية بثمانية مرات أثناء هبوطه.
ولأن «فوستوك ١» لم تكن مزودة بمحركات لإبطائها أثناء عودة دخولها المجال الجوي ولم يكن هناك وسيلة للهبوط الآمن، قذف غاغارين نفسه خارج المركبة على ارتفاع ٧ كم وهبط بالمظلة إلى الأرض.
وفي ذلك الحين اشترط الاتحاد الدولي للملاحة الفضائية IAF الذي يعد الهيئة الناظمة للسجلات الفضائية أن يهبط رائد الفضاء مع مركبته الفضائية لكي تعد المهمة رحلة فضائية رسمية، ولهذا قال قادة الاتحاد السوفيتي أن غاغارين قد هبط على الأرض في «فوستوك ١»، ولم يصرحوا بأنه قذف نفسه خارجها أثناء الهبوط حتى عام ١٩٧١. وبصرف النظر عن هذا، مازال غاغارين مسجلاً بأنه أول إنسان يغادر مدار الأرض ويسافر إلى الفضاء.
إرث غاغارين
غدا غاغارين بطلأً دولياً إبّان عودته إلى الأرض، تهلل له وتحييه حشود من مئات الألوف في الساحة الحمراء في موسكو، وكنزاً وطنياً يسافر حول العالم ليحتفي بالإنجاز السوفيتي التاريخي.
ولما عاد غاغارين إلى وطنه أصبح نائباً في مجلس السوفييت الأعلى في الاتحاد السوفييتي، وكان هذا المجلس أعلى هيئة تشريعية في الاتحاد السوفييتي عندئذ، ثم عُيّن قائداً لفصيل روّاد الفضاء. ولأن السوفييت لم يرغبوا بالمخاطرة بفقدان شخصية هامة مثل غاغارين، ترددوا بالسماح له بالعودة إلى الفضاء، ولكنه استمر بإجراء طلعات تجريبية لدى القوى الجوية.
وفي يوم ٢٧ آذار/ مارس ١٩٦٨ كانت الطلعة الأخيرة لغاغارين، حيث لقي حتفه مع طيار آخر في حادث تحطم أثناء اختبار طائرة مقاتلة نفاثة من طراز ميغ ١٥.
لم يبقَ غاغارين حياً في ذاكرة زوجته فالنتينا إيفانوفا غورياتشيفا وابنتيه فحسب، بل في ذاكرة مجتمع الفضاء والعالم. وهذا ما برهنه طاقم بعثة «أبولو ١١» التابعة لناسا، وهي البعثة الأولى التي هبطت بالإنسان على سطح القمر في تموز/ يوليو ١٩٦٩، حيث تركوا هناك ميداليات تذكارية تحمل اسم غاغارين، كما تركوا ميداليات تحمل أسماء رواد فضاء آخرين خسروا حياتهم في الفضاء أو أثناء التحضير للرحلات الفضائية.
ومع مرور الوقت بدأت الولايات المتحدة التعاون مع الاتحاد السوفيتي في مساعيهما في ميدان رحلات الفضاء، وجاءت الرحلة الفضائية المشتركة الأولى بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي عام ١٩٧٥ وأطلق عليها اسم أبولو-سويز. وعقب ذلك أرسلت وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» عدة رواد مكوكات فضائية إلى المحطة «مير»، محطة الفضاء السوفيتية سابقاً الروسية لاحقاً بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في عام ١٩٩١. وقد مهّد هذا التعاون الطريق لناسا ووكالة الفضاء الروسية «روسكوزموس» لكي يكونا شريكين رئيسيين في برنامج محطة الفضاء الدولية التي بدأت بإطلاق وحداتها عام ١٩٩٨ وتستمر في أبحاثها اليوم.
ما زال اسم غاغرين لامعاً في برنامج الفضاء الروسي ومستمراً، فالطواقم التي تستخدم مركبة سويز الفضائية تشارك في عدد من التقاليد قبيل الانطلاق وقبل الصعود على متن المركبة الفضائية سيراً على خطى رحلة غاغارين التاريخية، ويعد غاغارين مثالاً للشخصية الرمز والبطولة لدى الأطفال الصغار في روسيا.
ويُذكر أن المجتمع الفضائي يحتفي بإنجازات غاغارين كل عام في «ليلة يوري»، وهي احتفال يقام في تاريخ انطلاق يوري غاغارين نحو الفضاء في ١٢ نيسان/ أبريل من كل عام، وقد تأسس هذا الاحتفال عام ٢٠٠١ ويجذب الآلاف سنوياً.